التصوف والتفكير ومحبة الله
نشر بجريدة الشروق الخميس 24/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
رأينا كيف أن النص لا يغنى عن التفكير للتفسير والفهم، وأنه ما من نص إلاَّ ويتوجب التعامل معه بالفهم، لا للخروج على النص، وإنما لحسن فهمه واستخلاص قاعدته ومبناه وغايته، كما أنه من الفهم المعكوس تصور أن الاجتهاد كان لازمًا فقط لعصر الدعوة وتوالى نزول القرآن الكريم، وتوارد السنة، وحضور صاحب الدعوة وإجاباته على ما يسأل عنه أو يبادر هو لإيضاحه.. وأنه لم يعد للمجتمع حاجة إلى الاجتهاد بعد ذلك العهد، إلاَّ أن الاجتهاد والفهم متجددان مندوب إليهما في كل عهد حتى يرث الله الأرض وما عليها.
والسؤال، هل للتصوف واستغراقاته الوجدانية ــ هل له علاقة بالعقل والتفكير، وقوامه الوجدان والتأمل والطاعة والكشف.
كان التصوف معروفًا في أمم الغرب المسيحية، من قبل الإسلام والتصوف الإسلامي، والتصوف في الغرب المسيحي مشتق من الخفاء أو السر، ويطلقون عليه هناك اسم « مستسزم » « mysticism » أي السرية أو المعاني الخفية، وخاصته المميزة عندهم هي البحث في البواطن والتعمق في الأسرار المغيبة وراء الظواهر. وقد صادفنى ما كتبه السير آرثر ستانلى إدينجتون ـ عن العلم والتصوف وعن الواقع والتصوف، في كتابه « طبيعة العالم المادي » الذي قمت بترجمة أحد أبوابه الرئيسية Reality ـ الواقع أو الحقيقة، لكتاب الهلال ( العدد 720 ـ ديسمبر 2010 )، وتناول فيه العلم والتصوف، والواقع والتصوف، تناولاً متميزًا، أحيل من يريد الاستزادة بشأن التصوف المسيحى ـ على الصفحات من 73 حتى 104 من كتاب الهلال، كما تناوله جورج سانتأيانا في الجزء الخاص بأن الديانة قد تكون تجسيدًا للعقل، بكتابه « حياة العقل » life of reason ـ الذي ترجمت هذا الجزء منه إلى العربية، بكتاب الهلال ـ العدد 707 ـ نوفمبر 2009، وقد أورد سانتأيانا التصوف المسيحى كأحد طريقين مزعومين للهرب من التفاهة والخواء والغرور، وقال عن التصوف المسيحى ( ص 135 وما بعدها ) إنه النمط الثانى من الديانة اللا دنيوية، لا ينحو إلى إغراق الآدمى بولاءٍ طاغٍ لجهة واحدة أثيرة بلا شريك، بل على الضد يتصور أن أي مصلحة مخصوصة وأي مطلوب لمخلوق فانٍ ـ أمر مكتوب له الهزيمة والخيبة، وأن موضع القداسة في الصوفية التي تواجه الدنيوية ليس الانصياع لشريعة معينة سعيًا إلى استعادة قدر من الإحساس بالرضوان، أو سعيًا لنصرة منظمة أو عقيدة مخصوصة، وإنما القداسة عند المتصوف موضعها في الاعتدال الكلى الدائم، وفي البصيرة والخلاص من كل هوى وميل ووهم.. في حكمة غير متجسدة مجردة تقبل الكون وتسيطر على متاهاته.. قادرة على قيادة الآخرين فيه، دون أن تسعى لنفسها في تحقيق أي أمل أو إرضاء أية شهوة !
ويعلق سانتأيانا على التصوف ( ص 138 وما بعدها ) أنه بطبيعته، وهي طبيعة تأملية، لا يبلغ قط المدى الذي يبلغه التعصب من الأذى والضرر، ولا يؤدى بسهولة كالتعصب إلى العودة للدنيوية.. إلاَّ أن ترك جميع المصالح والتخلى عنها، لن يزيل خواء الحياة وتفاهتها، بل لعله يزيد في إبراز ذلك الخفاء وتلك التفاهة، والرجوع القهقرى خطوة خطوة إلى البدأية التي فيها بدأ الوجود.. وهو بذلك لن يكشف شيئًا في الطريق أفضل وأجدى، وأن هذه النتيجة
التي تبدو لأول وهلة غريبة، هي النهأية التي ينتهي إليها التصوف ( المسيحى ) في بعض الأحوال..
* * *
أما التصوف العربى، فإنه ـ فيما يبدى الأستاذ العقاد في درته « التفكير فريضة إسلامية » ـ مختلف في اشتقاقه وسبب إطلاقه، والقول الشائع أنه مأخوذ من الصوف ومقصود به التخشن والتقشف والتزيى بزى النساك المتعبدين.. ويقول البعض إن الصوفي منسوب ـ كما جاء في أساس البلاغة للزمخشرى وغيره ـ إلى « صوفة »، وأن آل صوفة كانوا يجيزون الحج من عرفات أي يفيضون به من عرفات، وكانوا يتنسكون ويخدمون الكعبة، ولعل الصوفية نسبوا إليهم تشبيهًا بهم في النسك والعبادة، ولابن الجوزى تعليل ثالث ذكره في كتابه « تلبيس إبليس ».
ومن المحدثين من يرجحون أن كلمة الصوفية مستعارة من اليونانية، بمعنى الحكمة
الإلهية، وهي في اللغة اليونانية مركبة أصلاً من كلمتين: « ثيو» أي الإله و« سوفي » أي الحكمة. والمعنى أن الصوفي يطلب الحكمة عن طريق الدين.
ويرجح كثيرون أن التصوف منسوب إلى « أهل الصُفّة » الذين كانوا يجاورون في عهد النبوة بمنزل الرسول عليه السلام، بينما يحب الصوفيون ـ أو فريق منهم ـ أن ينسبوا الصوفية إلى الصفاء، لصفاء أسرارها ونقاء آثارها.
والتعمق في طلب الأسرار صفة مشتركة بين الصوفية وفلاسفة التفكير الذين يغوصون إلى الحقائق البعيدة، وعلماء النفس الذين ينقبون عن ودائع العقل الباطن وغرائب السريرة الإنسانية.
والاشتغال بالحكمة الدينية عمل يعمله حكماء الصوفية، وقد يخلعون الصوف ويعيشون بين الناس ولا ينقطعون للخدمة الدينية، وقد يكتبون في الحكمة الإلهية أو في المعاملات والمكاسب، وقد لا يشتغلون بالكتابة. ولكن إذا غرب عنهم « صفاء القلب لله » ـ لم يُحْسبوا من الصوفية، ولم يُسلكوا في عداد أهل التصوف.
محبة الله
والمزية الصوفية الخاصة، هي مزية الأيمان بالله على الحب، لا على الطمع في
الثواب، أو على الخوف من الحساب والعقاب.
وكذلك الصلة بين الصوفي وربه، فهي صفه قائمة على المحبة لا على مجرد الطاعة لأوامره والخوف من نواهيه. فإن المحب يعطى من عنده فوق ما يُؤْمر به أو يُنْهي عنه. ولبعض كبار الصوفية مأثورات في هذا المعنى.. رابعة العدوية، وابن عربى، وذو النون، واليافعى وغيرهم.
ويرون أن المحبة لا تعطيهم حق الثواب، لأنهم لا يُلهمون بها إلاَّ بنعمة من الله وفضل منه. وفي ذلك تقول رابعة العدوية:
أحبك حبين حب الهوى : وحبًّا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى : فشغلى بذكرك عمّن سواكا
وأما الذي أنت أهل له : فكشفك للحجب حتى أراكا
وما الحمد في ذا وفي ذاك لى: ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
هذا ولا يُعرف لغةٌ من لغات الأرض ــ وسعت من شعر الحب الإلهي ما وسعته اللغة العربية في كثرة وتعدد الأساليب.
ويرى الأستاذ العقاد أن الإسلام هو الدين الذي يسمح باستقلال الصلة بين المخلوق والخالق، بغير وساطة من سادن أو كاهن ولا شعائر في المحراب، ولعل إلى هذا شيوع التصوف بهذه الكثرة في بلاد الإسلام، وربما أيضًا لأن الإسلام يرفض الرهبانية والانقطاع عن الدنيا، ومن ثم فلا ملاذ للفرد إذا نبا به مجتمعه، إلاَّ أن يلجأ إلى ضميره ويتخذ لنفسه مذهبًا يحاسبها عليه.
فإذا فرقنا بين الصوفية والانقطاع عن الدنيا، فإن الديانات الأخرى قد أخرجت من المنقطعين عنها ـ كالرهبان والنساك ـ أكثر ممن أخرجهم الإسلام.
ولكن الفرق الواضح أن عدد الصوفيين من ذوى الآراء والأقوال بين المسلمين، أكثر كثيرًا من أمثالهم في جميع الديانات الأخرى.
المنشور التصوف والتفكير ومحبة الله ظهر لأول مرة نقابة المحامين المصرية.