بقلم الدكتور/ أشرف نجيب الدريني
لماذا يُقبل الناس على تعاطي المخدرات وهم يعلمون علم اليقين أنها مهلكة للأبدان، مدمّرة للعقول، قاطعة للصلات الاجتماعية والروابط الإنسانية؟ كيف وصل الحال بأن تصبح تلك السموم الصناعية، المعروفة اصطلاحًا بالمخدرات المُخلَّقة، في متناول كل يدٍ، حتى بات ثمنها لا يفوق ثمن وجبة طعام رديئة أو علبة سجائر زهيدة؟ وأي تفسير يُقنع العقل والضمير حين يسأل “طفل” لم يتجاوز العاشرة من عمره، بعفوية: “ليه الناس بتشرب المخدرات وهي عارفة إنها مضرة؟” ثم، ما دور الأجهزة الشرطية والأمنية في مكافحة هذه الآفة التي تنمو كالفطر في الظلام؟ وما مدى كفاية الأدوات القانونية والتدابير الإجرائية الحالية في الحدّ من انتشارها؟
أسئلة تندرج في صلب معضلة جنائية معقدة، تتجاوز حدود الفعل الإجرامي الفردي، لتتصل ببنية اجتماعية متصدعة، ومجتمع يُصارع ضغوطًا اقتصادية ونفسية، وتحديات ثقافية وتربوية، في ظل عالم يتغير بوتيرة تفوق قدرة الضمير الجمعي على الاستيعاب والمواجهة. المخدرات المُخلَّقة لم تعد مجرد مادة تُنتج في الخفاء ويتم تهريبها عبر المنافذ، بل تحوّلت إلى صناعة مُتطورة، تستعين بالعلم الحديث لتخليق مواد كيميائية ذات تأثير نفسي حاد، أشد خطرًا من المواد التقليدية كالحشيش والأفيون والهيروين. هذه المواد، التي غالبًا ما تُصنّف تحت أسماء مستحدثة كـ”الفودو” و”الاستروكس” و”الشابو” و”الآيس”، لا تندرج دائمًا في نطاق المواد المخدّرة المحظورة بمقتضى الجداول القانونية التقليدية، ما يجعل عملية ضبطها وتجريم حيازتها وتعاطيها محلّ إشكال قانوني متجدد.
ولئن كانت سلطات إنفاذ القانون، المتمثلة غي أجهزة الشرطة، تؤدي دورًا لا يُستهان به في تتبع تلك الشبكات الإجرامية التي تتولى تصنيع هذه السموم وترويجها، فإن التحديات التي تواجههم لا تُعدّ بسيطة. الضبطيات اليومية، والمداهمات النوعية، والتحقيقات المعقدة التي تُفضي إلى تفكيك عصابات متخصصة في الاتجار بالمخدرات المُخلَّقة، لا تلبث أن تُواجه بسيل جديد من البدائل والمواد المُركبة التي تُنتج محليًا أو تُهرّب عبر المنافذ بطرق غير تقليدية، مما يُلقي عبئًا مضاعفًا على كاهل القائمين على إنفاذ القانون، ويجعل المعركة مفتوحة على اتساعها بين “الجريمة والتنظيم”.
المقاربة الأمنية على ضرورتها، تظل قاصرة إذا ما انفصلت عن مقاربة توعوية واجتماعية وثقافية تكمّلها وتدعمها. فمكافحة المخدرات المُخلَّقة ليست شأنًا شرطياً بحتاً، بل هي في جوهرها معركة “وعي”، تبدأ من الأسرة، وتمر بالمدرسة، وتتجلى في الإعلام، وتُصان بالتشريع. الإعلام – بما يملكه من قوة التأثير والتوجيه – يجب أن يتحول من ناقل للأخبار إلى مُبادر في توجيه الرأي العام، من مُعلّق على الكارثة إلى شريك في مواجهتها، وأن يُعيد إنتاج خطاب اجتماعي يتأسس على قيم الحصانة الذاتية، لا مجرد التحذير العابر من العواقب.
ذلك أن المخدرات المُخلَّقة ليست مجرد خطر على صحة الأفراد، بل هي تهديد مباشر لأمن المجتمع. الجرائم المرتبطة بتعاطي هذه المواد لا تقف عند حدّ الانحراف السلوكي أو التهور، بل تتعدى إلى جرائم عنف خطيرة، منها ما يُرتكب في حق الجسد، كالاغتصاب وهتك العرض والتحرش الجنسي، ومنها ما يُرتكب ضد المال، كالسرقة بالإكراه، والخطف، والبلطجة، بل وصل الأمر في بعض الحالات إلى جرائم القتل التي يرتكبها المتعاطي وهو تحت تأثير مادة فقد معها الوعي والإرادة والتمييز، وصار أقرب إلى المسلوب عقليًا منه إلى الإنسان العاقل المسؤول.
ومما يدعو للأسف أن هذه الجرائم باتت تُرتكب في بيئات كانت تُعد سابقًا بمنأى عن الإجرام، فأصبحنا نسمع عن اعتداءات جنسية داخل الأسرة، وعن سرقات يرتكبها الأبناء في حق ذويهم، وعن آباء فقدوا السيطرة على سلوكهم تجاه أبنائهم، كل ذلك تحت تأثير هذه المواد المخلقة التي تغيّب العقل وتُذيب الضمير وتفتح أبواب الجريمة دون وازعٍ.
من هنا، فإن المشرّع الجنائي مطالب بإعادة النظر في البنية القانونية المنظمة لمسألة المخدرات المُخلَّقة، سواء من حيث تعديل الجداول الملحقة بقانون مكافحة المخدرات لتضم كافة التركيبات الكيميائية المستحدثة، أو من حيث تشديد العقوبات في مواجهة من يتولى تصنيع هذه المواد أو الاتجار بها، وكذلك تعزيز الآليات الوقائية، وتمكين الجهات الرقابية والصحية والتعليمية من أداء أدوارها بشكل متكامل، يكفل الوقاية قبل وقوع الجريمة لا الاكتفاء بردّ الفعل بعدها.
وإجابة على سؤال “الطفل” الذي تساءل ببراءة عن سبب تعاطي الناس للمخدرات رغم علمهم بأضرارها، أقول: لأن البعض فقد الأمل، والبعض فقد الوعي، والبعض خُدع تحت مسمى الترفيه أو التجربة أو الهروب من الواقع. لكن يبقى الرهان الحقيقي على من لم يفقد عقله بعد، على أولئك الذين يدركون أن تعاطي المخدرات، لا سيما المُخلَّقة منها، ليس مجرد سلوك إجرامي، بل هو استقالة من الحياة، وتمهيد لجرائم أعظم، وانتحار بطيء قد يمتدّ ضرره إلى من حولك.
إن مسؤولية الجميع – فردًا ومؤسسة – أن يتصدوا لهذا الخطر الداهم، لا بإنكار وجوده، بل بمواجهته. فالمجتمعات التي تُحارب المخدرات بالمعلومة، والتوعية، والتشريع الرادع، والتعليم النافع، والرعاية النفسية والاجتماعية، هي وحدها القادرة على اجتثاث هذه الآفة من جذورها. وما لم نُدرك ذلك اليوم، فغدًا سنُدركه في محاضر الشرطة، أو في تقارير الطب الشرعي، أو على منابر القضاء، أو في المقابر. والله من وراء القصد.
The post المخدرات المُخلَّقة appeared first on نقابة المحامين المصرية.