بقلم/ الدكتورة يسرا شعبان، مدرس القانون بكلية الحقوق جامعة عين شمس ـ عضو اللجنة العليا للإصلاح التشريعي

تعلمنا جميعاً من دراستنا في السنة الأولى بكليات الحقوق المختلفة أن من أهم سمات القاعدة القانونية أنها قاعدة اجتماعية، وهذا يعني أنها تنظم سلوك الأفراد في المجتمع وتحدد حقوقهم وواجباتهم.

والقاعدة القانونية بذلك تهدف إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية، تحقيق التوازن والاستقرار وذلك وفقاً لطابعها الإلزامي والتوجيهي. إذن، القاعدة القانونية لا يمكن فصلها عن البيئة الاجتماعية التي تعمل ضمنها، وهي أداة لضمان التناغم بين الأفراد والمصلحة العامة. وتحقق ذلك القاعدة القانونية وفقاً لفلسفة تشريعية ورؤية واضحة ومحددة، حيث أن فلسفة التشريع وتاريخه يكفلان تحليل المبادئ الأساسية للقانون، توجيه التشريعات المستقبلية، مراجعة الأنظمة القانونية، فهم التشريعات في السياق التاريخي، التأثير على الفكر القانوني والفلسفي. بالتالي، يشكل فهم فلسفة التشريع وتاريخه أداة أساسية لتطوير الأنظمة القانونية وضمان ملاءمتها لمتطلبات المجتمع المعاصر.

وبناء عليه، نؤكد من هذا المقام، أن القاعدة القانونية مثلها مثل الكائن الحي، يتطور ويتغير مع الزمن ووفقاً للأحداث الجارية في كل عصر من العصور وذلك من باب إما التوافق مع الاحتياجات التشريعية في حينها، أو من باب التحديث ومواكبة العصر.

ومن باب التنوير ونشر الثقافة القانونية للمشتغلين بالمجال أو لغير المتخصصين المهتمين بالمعرفة، ننشر من خلال هذه السلسلة القانونية مقالات مختلفة عن تطور القانون في البقاع المختلفة، إيماناً منا بدور القانون المقارن في تحسين وتطوير التشريعات الوطنية والدولية، حيث يقدم منهجية علمية لمقارنة الأنظمة القانونية المختلفة بهدف فهم أوجه التشابه والاختلاف بينها. فللقانون المقارن تحديداً أهداف مختلفة ومتنوعة منها: تحسين التشريعات الوطنية، تعزيز التكامل القانوني، تسهيل التعاون الدولي، فهم الثقافات القانونية المختلفة، الإسهام في توحيد القوانين، تطوير الفكر القانوني، دعم الابتكار التشريعي. فالقانون المقارن ليس مجرد دراسة أكاديمية، بل هو أداة فعّالة لتطوير التشريعات، تعزيز التعاون الدولي، وتحقيق العدالة في عالم متغير.

نبدأ أولى هذه المقالات بمقالة هامة تخص الإصلاح الفرنسي لقانون العقود لعام ٢٠١٦، لما يؤكده هذا الإصلاح من فلسفة تشريعية عامة، ولما يبعثه من رسائل مقارنة لتجارب دولية على مستوى العالم.

في عام ٢٠١٦، أُجرى المشرع الفرنسي تعديلاً جوهرياً في القانون المدني الفرنسي، خاصة فيما يتعلق بقانون العقود. كان هذا الإصلاح جزءاً من مشروع تجديد شامل للقانون المدني الفرنسي الذي بدأ في عام ٢٠١٦ تحت إشراف لجنة من القانونيين، وكان يهدف إلى جعل القوانين أكثر وضوحاً وملاءمة للواقع المعاصر. كان إصلاح قانون العقود جزءاً من عملية تحديث أكبر في مختلف فروع القانون المدني الفرنسي، شمل جوانب مثل المسؤولية التعاقدية وغير التعاقدية، وتفسيرات العقد، وتنظيم العقوبات في حالة الإخلال بالعقود، بالإضافة إلى تكريس مبادئ جديدة في العقود الإلكترونية.

ولهذه الإصلاحات أهمية كبرى، لأنها أول تعديلات تتم بطريقة موسعة لقانون العقود الفرنسي وذلك منذ بداية العمل بكود نابليون ١٨٠٤. حيث يعتبر كود نابليون، المعروف رسميًا باسم القانون المدني الفرنسي لعام ١٨٠٤أحد أهم الوثائق القانونية في التاريخ القانوني الفرنسي والعالمي -حيث تم تصدير فكره، فلسفته ونصوصه، للعديد من دول العالم. تكمن أهميته في عدة جوانب: تأسيس وحدة قانونية في فرنسا، استلهام روح الثورة الفرنسية، نموذجاً للتشريعات في العالم، تطوير قواعد القانون المدني، حيث استمر تأثيره حتى اليوم. فكود نابليون ليس مجرد وثيقة قانونية، بل هو حجر الزاوية الذي أسس للقانون المدني الحديث في فرنسا والعالم، معبرًا عن تطلعات الثورة الفرنسية ومساهمًا في نشر القيم القانونية العصرية.

يُعتبر إصلاح قانون العقود الفرنسي لعام ٢٠١٦ بموجب الأمر التشريعي رقم 2016-131 في 10 فبراير 2016، من أبرز وأهم التحديثات في القانون المدني الفرنسي منذ إصداره في عام ١٨٠٤. ويمكن إجمال أهم ملامح هذا الإصلاح فيما يلي:

تدوين المبادئ العامة للعقود مثل مبدأ حسن النية، مبدأ حرية التعاقد، إعادة تعريف العقد، إصلاح القواعد المتعلقة بالمفاوضات السابقة للعقد، تعزيز حماية الطرف الضعيف، تنظيم عيوب الإرادة و إدخال الإكراه الاقتصادي كعيب في الرضا ، القوة الملزمة للعقد، إعادة صياغة قواعد تنفيذ العقد، إدخال العقود الإلكترونية، إلغاء العقود بسبب الغبن، إعادة التوازن للعقود طويلة الأمد، إلغاء العقد بسبب الإكراه .

وبذلك نرى، أن هذا الإصلاح هدف إلى، التحديث وذلك من خلال تكييف قانون العقود مع الاحتياجات الحديثة للفاعلين الاقتصاديين، التوضيحوذلك من خلال تسهيل فهم النصوص القانونية وجعلها أكثر وضوحًا، الجاذبية الدوليةوذلك من خلال تعزيز استخدام القانون الفرنسي في العقود الدولية، وأخيراً التناغم وذلك بتقليل التباينات بين القانون الفرنسي والقوانين الأوروبية وبذلك، نجد أن يأتي هذا الإصلاح في سياق حركة تناغم أوروبية، مستلهمة من مشاريع مثل مبادئ اليونيدروا ومشروع الإطار المرجعي المشترك. أثرت هذه الأعمال على مفاهيم مثل الظروف الطارئة وحسن النية.

وإنه لجدير بالذكر أن لهذا الإصلاح قانون العقود الفرنسي أثّر على الأنظمة القانونية الأخرى، حيث يُعد مصدر إلهام للدول التي تسعى لتحديث قوانينها. كما يعزز موقع فرنسا كمركز جذب للاستثمارات الدولية بفضل وضوح وقابلية توقع النظام القانوني لأنه ساهم الإصلاح في تعزيز الأمن القانوني وزيادة استخدام القانون الفرنسي في العقود الدولية.

يتبع هذا المقال لاحقاً بسلسلة مقالات أخرى توضح تفصيلاً كل ملمح من هذه الملامح المختلفة بشيء من التفصيل والإسهاب.

The post الإصلاح التشريعي الفرنسي للقانون المدني ٢٠١٦ “نظرية الالتزام وأحكام الإثبات” appeared first on نقابة المحامين المصرية.

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
Notify of
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x