من تراب الطريق ( 1278 )
ــــ
أزمة الزعامة السياسية ( 8 )
نشر بجريدة المال الخميس 10/3/2022
ـــــــــــــــــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ : رجائى عطية
لم تكن رأس « روبسبير » هى الوحيدة التى طيرتها المقصلة فى 28 يونيو 1794 ، وإنما طارت مع رأسه رأس أخرى ، هى رأس « ملاك الموت» « سان جوست » ( لويس أنطوان دى سان جوست ) ـ كان أصغر النواب المنتخبين فى المؤتمر الوطنى عام 1792 ، وزادت شهرته يوم ألقى خطابًا ناريًّا فى المؤتمر الذى أدان الملك لويس السادس عشر ، إدانةً هى التى شيعته إلى الجيلوتين . يومها أشعل « سان جوست » المشاعر حين طالب بأنه لا يجوز أن يعامل لويس كملك مثل أبيه ، أو حتى كمواطن ، بل هو خائن والخائن عدو للوطن وللشعب . وقد كان « سان جوست » هو قائد الحركة التى دفعت بالملك لى المقصلـة ، وحـاز عن جدارة لقب « ملاك الموت » ، وظل خلال الثورة زعيمًا لنادى اليعاقبة ، وصديقًا صدوقًا لأيقونة الثورة « روبسبير » ، وكما تصاحبا صديقان فى الثورة ، أُرسلا معًا إلى المقصلة ، وطارت رأساهما معًا ، ومن المفارقات أن لقبه « ملاك الموت » قد صاحبه لقب عكسى : « القديس » .. عمل كمشرع للثورة ، ومفوضًا عسكريًّا منها ، وطارت سمعته فى الآفاق ، ولكن الأيام حُوّل قُلب ، أو دعونا نقول إن قادة الثورات يأكلون بعضهم بعضًا ، وهذه سُنّة لم تنـج منهـا ثـورة . مـن زعامتـه لحـزب « الجاكوبيين » الثورى المتطرف ، تحول إلى « طريد » للثورة ، وكان الذين يجلّونه ورفعوه إلى عنان السماء ، هم الذين أوقعوا به وهبطوا به إلى الحضيض ، أُعدم على المقصلة وسنّه 26 عامًا ، فهو مولود 1767 ، وكان الهبوط الذى أنهى حياته هذه النهاية ، أسرع من رحلة الصعود التى بوّأته زعامة الثورة مع روبسبير ، ثم دفن ـ بعد إعدامه ـ فى « سراديب الموتى » فى باريس !
وحين يُذكر « روبسبير » و « سان جوست » ، يقفز إلى الخاطر « جورج دانتون » فقد تحول ما يكاد أن يكون حلفًا ثلاثيًّا ،إلى الانقلاب على « دانتون » ، انقلابًا لا يتفق مع أسباب صعود نجمه ، لولا معاول الهدم الذاتية التى تصيب قادة الثورات .
كان « دانتون » قائدًا لنادى « كورويليرس » أحد الأندية الشعبية للثورة الفرنسية ، وصار النادى تحت قيادته قوة سياسية كبرى . ألقى خطابات نارية متكررة فى نادى اليعاقبة الذى كان يتزعمه « سان جوست » ، وشارك فى المسيرة الحاشدة الغاضبة التى اتجهت إلى قصر « التويليرى » حيث أقام الملك ، وقتلوا الحرس السويسرى الذى كان مكلفًا بحمايته ، فاضطـر لويـس السـادس عشر وعائلته إلى الفرار ، وكان هذا الحادث مقدمة للإطاحة بالملك وإعدامه على المقصلة .
يعتبره عديدون من المؤرخين « القوة الرئيسية » فى الإطاحة بالنظام الملكى وتأسيس الجمهورية الفرنسية الأولى ، وأصبح أول رئيس للجنة السلامة العامة .
بيد أن « دانتون » كان رجلاً « غامض الولاء » ، ويحتفظ بكثير من روابطه السياسية فى « الخفاء » ، وقد أُتى من هذا ، فقـد قيـل عنـه إنـه وراء تمكيـن « مارا » من الفرار من أمر القبض عليه الذى أصدره « لافاييت » وبعث بقوة من ثلاثمائة رجل من الحرس الوطنى للقبض عليه ، ولكن « دانتون » أقنع الشرطيين بأن أمر القبض على « مارا » قديم ، يرجع إلى تاريخ سابق ، وأنه لابد من الرجوع إلى الجمعية الوطنية قبل تنفيذه ، فلما أيدت الجمعية الوطنية قرار القبض ، كان العصفور قد طار من القفص فى طريقه إلى إنجلترا ، وكان أن أعتبر « دانتون » مسئولاً عن تهريبـه ، وأصدرت محكمـة الشاتليه فـى 17 مـارس 1970 أمرًا بالقبض على « دانتون » للتستر على « مارا » ، ولكن أمر المحكمة أُهمل تنفيذه .
لوحظ عليه أن غضبته لهرب الملك فى 21 يونيو 1792 ـ كانت بالغة العنف لا ضد الملك وإنما ضد « لافاييت » ، ومع أن « روبسبير » كان على علم بما يؤخذ عليه من مآخذ ، ومنها هروبه إلى الريف ليبتعد عن التدخل فى مذبحة « شان دى مارس » إلاَّ أنه استمر فى التعاون معه حتى محاكمته عام 1794 .
كان رأى « لامارتين » فيه ، فى كتابه « تاريخ الجيروند » ، أنه رجل مجرد من الشرف ومن المبادئ ، ولا يحب الديمقراطية إلاَّ لما تعطيه له من انفعالات ، بينما كان فى الواقع يعبد القوة والقوة وحدها .
جاء مشهد النهاية ، كالمتوقع فى تنافس الزعماء ، بعريضة اتهـام أعـدهـا « سان جوست » ، اتهمه فيها بأنه كان فى إنجلترا فى 17 يوليو 1789 ، أى بعد قيام الثورة بثلاثة أيام ، وكان « لالوسرن » سفير فرنسا فى لندن آنذاك ، فكتب إلى وزير خارجيته بفحوى حديث دار بين « دانتون » و « دوق أورليان » الذى كان مبعدًا فى إنجلترا ، وأُخذ على « دانتون » أنه كان « عميلاً مزدوجًا » واتهمـه و روبسبير بمناصـرة « ميرابو » والملكيين الدستوريين ودوق أورليان ، وطارت رأسه على المقصلة فـى 5 أبريل 1794 ، قبل شهرين فقط من الإطاحة برأسى « روبسبير» و«سان جوست» ، اللذين شربا من ذات الكأس التى طِيرا بها رأس « دانتون » !
The post أزمة الزعامة السياسية ( 8 ) appeared first on نقابة المحامين المصرية.