بقلم: المستشار الدكتور / إسلام إحسان ـ نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية
من أهم الأفكار القانونية فى مجال القانون الإدارى ، فكرة المركز القانونى المكتسب و ما يرتبه من آثار، و رغم أهميتها إلا أنها يشوبها الغموض أحياناً وتختلط على الكثيرين من المشتغلين بالقانون الإدارى .
أنواع المراكز القانونية
المراكز القانونية نوعان ، أولهما المراكز القانونية التنظيمية وتلك تتميز بالعمومية إذ أن مضمونها واحد ومتجانس لجميع الأفراد الذين تتوافر فيهم الشروط القانونية المطلوبة لإكتسابها مثل المركز القانوني الذي يشغله الموظف العام بصفة عامة ، و ثانيهما المراكز القانونية الفردية، و هى ذات طابع شخصي تختلف من شخص لأخر، مثالها المركز القانوني الذي ينشأ عن القرار الإداري .
أثر التفرقة بين أنواع المراكز القانونية
الأثر الذي يترتب على التفرقة بين هذين النوعين من المراكز القانوني هو أن القرار الإداري المنتج للحق المكتسب هو القرار الإداري الفردي فقط، أما القرار التنظيمي فلا ينتج حقوقاً مكتسبة؛ وذلك لأنها تتكون من مجموعة من القواعد العامة المجردة ، في حين لا يمكن الحديث عن حق مكتسب إلا حيث يوجد تصرف قانوني إداري صدر وفقاً للقانون يخص مركزاً معيناً متعلقاً بحالة فردية ، و على ذلك فإن المراكز التنظيمية يجوز تعديل مضمونها لأن هذه المراكز تستمد وجودها من القوانين والأنظمة التي تحدد فحواها، لهذا تؤدي القوانين والأنظمة إلى تعديل مضمون هذه المراكز وسريان هذا التعديل على جميع الأشخاص الذين يشغلون هذه المراكز دون إمكانية الاحتجاج بفكرة الحقوق المكتسبة ، لأن المساس بالحقوق المكتسبة لا يكون إلا بقانون ينص على الأثر الرجعى طبقا للأوضاع الدستورية ، بينما لا تتأثر المراكز الشخصية أو الذاتية بتعديل القوانين والأنظمة وإلغائها ؛ لان مضمون هذه المراكز محددة بصورة فردية وليس بإجراءات قانونية عامة كالقوانين والأنظمة؛ لهذا يقال بأن المراكز القانونية الشخصية أو الذاتية غير قابلة للمساس بها.
ماهية المركز القانونى المكتسب
على ذلك يمكننا تعريف المركز القانونى المكتسب أو الحق المكتسب للشخص في القانون الإداري بأنه وضع قانونى مشروع بموجبه تتحصن من الإلغاء أو التعديل المنفعة أو الميزة سواء أكانت مادية أو معنوية التي حصل عليها أو إكتسبها الشخص جراء قانون أو قرار إداري ، ويقصد بالتحصين وفق الاصطلاح القانوني هو الحماية القانونية للحق ضد الغائه أو تعديله .
أساس المركز القانونى المكتسب
فكرة الحق المكتسب الناشىء عن المركز القانونى تجد أساسها فى مبدأ الأمن القانوني Sécurité juridique و ما يقتضيه من إستقرار الأوضاع القانونية الناشئة عن القوانين و اللوائح و القرارات التى صدرت بالفعل ، و مبادئ العدالة تقضي بعدم حرمان الشخص من حق اكتسبه في الزمان الماضي ، و كذلك فى أحد أهم المبادىء القانونية العامة و هو مبدأ استقرار المراكز القانوني و مقتضاه ضرورة عدم بقاء المراكز القانونية مهددة إلى ما لا نهاية ، و أخيراً يعد مبدأ الحق المكتسب الأرضية الفلسفية لمبدأ عدم رجعية القرارات الإدارية ومبدأ سريان القوانين من دون رجعية ، إذ ان الأثر الرجعي سيؤدى إلى المساس بالحقوق و المراكز القانونية التى نشأت بناءً على قوانين كانت سارية آنذاك وقت نشأت تلك المراكز القانونية ، فالقاعدة العامة أن القوانين و القرارات لا تسري بأثر رجعي ، و لا تطبق على الوقائع السابقة أو الأحداث التي حصلت قبل نفاذ التشريع الجديد ، فإذا صدر قرار يتضمن أثراً رجعياً كان جزاؤه البطلان ، و الأثر الرجعى المعيب يتحقق إذا كان هناك ثمة مركز قانوني شخصي قد تكاملت عناصره في ظل وضع قانوني معين، فلا يمكن المساس به إذا ما تغيرت الأوضاع القانونية بعد ذلك .
تطبيقات القضاء لفكرة المركز القانونى المكتسب
تأكيدأ لعدم جواز المساس بالمراكز القانونية المكتسبة ما قضت به المحكمة الدستورية العليا فى حكمها الصادر فى القضية رقم 131 لسنة 22قضائية دستورية ، الصادر بجلسة 7/7/2002 حيث قضت بإن ” الحكم الموضوعي الذي تضمنه القانون المطعون عليه هو إنهاء خدمة الأساتذة المتفرغين الذين جاوزوا سن السبعين وقت العمل بالقانون 82 لسنة 2000 بعد أن كان قد اكتمل مركزهم القانوني كأساتذة متفرغين قبل العمل به ، وحيث إن النعي على هذا الحكم الموضوعي بمخالفته للدستور هو نعى صحيح، ذلك أن هذا الحكم قد وقع في حمأة المخالفة الدستورية من وجهين متساندين، الأول: هو أن النطاق الذي يمكن أن يرتد إليه الأثر الرجعى للقانون ، هو ذلك الذي يعدل فيه التشريع من مراكز قانونية لم تتكامل حلقاتها ، وبالتالي لم تبلغ غايتها النهائية متمثلة في حقوق تم اكتسابها وصار يحتج بها تسانداً إلى أحكام قانونية كانت نافذة ، إذ في هذا النطاق يبقى المركز القانوني قابلاً للتدخل التشريعي، تدخلاً قد يزيد أو يزيل من آمال يبنى عليها صاحب المركز توقعاته ، فإذا تقرر الأثر الرجعى في غير هذا النطاق ، وامتد إلى إلغاء حقوق تم اكتسابها فعلاً وصارت لصيقة بأصحابها ، وفقاً لأحكام قانونية كفلت حمايتها والاحتجاج بها في مواجهة الكافة، كأثر لنفاذ هذه الأحكام، فإن الأثر الرجعى للقانون يكون بذلك قد تحول إلى أداة لإهدار قوة القوانين السابقة ومكانتها من الاحترام الذي يجب كفالته لها طوال الفترة التي كانت نافذة فيها وهو الأمر الذي يتصادم مع أحكام المادتين (64 و 65) من الدستور اللتين تنصان على أن (سيادة القانون أساس الحكم في الدولة) وأن (تخضع الدولة للقانون) .
أما مجلس الدولة المصري فقد إستقر قضاؤه على أن القاعدة القانونية بوجه عام تحكم الوقائع والمراكز القانونية التي تتم في ظلها، أي في الفترة ما بين تاريخ العمل بها وإلغائها، وهو ما يعد مجال تطبيقها الزمني، فتطبق القاعدة القانونية الجديدة بأثرها المباشر في الوقائع أو المراكز التي تقع أو تتم بعدها، ولا تطبق بأثر رجعي على الوقائع أو المراكز التي تقع أو تتم قبل نفاذها إلا بنص صريح يقر الأثر الرجعي ، و أن المستقر عليه أيضا أن الأصل في نفاذ القرارات الإدارية الفردية أن يقترن نفاذها بتاريخ صدورها، بحيث تطبق بالنسبة للمستقبل ولا تطبق بأثر رجعي إلا إذا نص القانون على ذلك، تطبيقا لمبدأ احترام الحقوق المكتسبة واستقرار الأوضاع والمراكز القانونية، ويرد على هذا الأصل بعض الاستثناءات فيجوز إصدار قرارات إدارية بأثر رجعي في حالتين: (الأولى) أن تكون القرارات واللوائح تنفيذا لقوانين ذات أثر رجعي، أما (الثانية) فحالة ما إذا كانت هذه القرارات أو اللوائح تنفيذا لأحكام صادرة عن القضاء بإلغاء قرارات إدارية وقعت مخالفة للقانون. ( المحكمة الإدارية العليا – الطعن 2902 لسنة 56ق – جلسة 20/6/2015 ).
مصادر المركز القانوني المكتسب
الأصل أن المركز القانونى المكتسب أو الحقوق المكتسبة تنشأ عن القرارات الإدارية المشروعة أو ما يسميه الفقه الفرنسي القرارات ذات الأفضلية Les actes favorables ، و تبدأ لحظة ولادتها بصدور القرار الإداري ، و على ذلك فإن القرار الإدارى الصحيح الذى ولد حقوق او مراكز قانونية لا يجوز سحبه أو إلغائه ، فالميزة التي يحصل عليه الشخص من القرار الإداري المشروع لا يجوز المساس بها لأنها أصبحت حقاً مكتسباً للشخص .
و القرارات الإدارية غير المشروعة أو التى يسميها الفقه الفرنسي القرارات غير ذات الأفضلية( les actes défavorables) ، فالأصل أنها لا تولد حقاً لأن ما بنى على باطل فهو باطل ، إلا أنه فى المقابل من المقرر فقهاً و إفتاءً و قضاءً أن مرور وقت معقول على بقاء القرار المعيب يولد ثقة مشروعة لدى الأفراد في الوضع المترتب عليه ، ويحوله من حالة واقعية إلى حالة قانونية تولد حقوقاً مشروعة ، فيكون ثمة نوع من التقادم المسقط لعيب المشروعية ، أو نوع من التقادم المكسب ببقاء القرار غير المشروع .
و تطبيقاً لذلك فإن المركز القانونى المكتسب أو الحق المكتسب للشخص لا ينشأ فقط من القرارات الإدارية المشروعة التي ترتب حقوقاً مكتسبة ، إنما ينشأ كذلك من القرارات الإدارية الغير مشروعة المتحصنة و التى تتحصن بمضي المدة المحددة للطعن وهى مدة ستون يوما من تاريخ صدور القرار الإداري المخالف للقانون أو المعيب ، إذ أنه بانقضاء المدة وهى فترة الستين يوماً لنشر القرار وإعلانه يكتسب القرار حصانة تعصمه من أي إلغاء أو تعديل ويصبح عندئذ لصاحب الشأن حق مكتسب فيما تضمنه القرار رغم أنه قرار معيب ، وكل إخلال بهذا الحق بقرار لاحق يعتبر أمراً مخالفاً للقانون يعيب القرار الأخير ويبطله ، و على ذلك فإن لحظة ولادة الحق المكتسب تبدأ من لحظة انتهاء المدة المقررة للطعن على القرار الباطل .
القاعدة السابقة تقتصر على القرارات الإدارية الباطلة دون المنعدمة لأن الأخيرة هي قرارات ليس لها وجود قانوني، ومن ثم لا ينتج عنها أي أثر قانوني بالرغم من وجودها من الناحية المادية باعتبارها محررات لها مظهر القرارات الإدارية ، و يتحقق الإنعدام فى حالة صدور القرار من غير موظف عام ، أو فى أحوال غصب السلطة الجسيم المحجوزة لسلطة عامة فى الدولة دون سواها ، و عيب المحل الناشىء عن مخالفة القانون .
وهناك مسألة فى غاية الأهمية يجدر التنبيه إليها وهى أنه لكي ينشأ الحق المكتسب من القرار الإداري غير المشروع ( الباطل ) ينبغي أن يكون المستفيد من المنفعة حسن النية ، فإذا انعدم حسن النية لدى المستفيد، وكان هو الذي دفع الإدارة إلى استصدار القرار الإداري المعيب بغشه أو تدليسه ، فإنه يكون غير جدير بالحماية تطبيقاً للقاعدة القانونية المستقرة في فقه القانون من أن الغش يفسد كل شيء.
كما أن هناك فارق بين القرارات الكاشفة والقرارات المنشئة على نشأة المراكز القانونية بموجبها إذ أن القرارات المنشئة هي التي تنتج حقوقاً مكتسبة أما القرارات الكاشفة فلا تقوم بمثل هذه الوظيفة.
و يمكن إجمال القرارات التي لا تنتج مراكز قانونية بأنها القرارات السلبية Les décisions négatives ، والقرارات المتلازمة مع تحفظات Les décisions assorties de réserves أو الموقوفة على شرط، والقرارات المتخذة بناء على غش أو تدليس من وجهت إليه، وهذه تكون بلا قيمة قانونية بحكم انعدامها (تقرير المفوض J.Fournier على حكم مجلس الدولة الفرنسي الصادر في 3/3/1967 في قضية Ministre de la construction ) المنشور في مجلة A.J.D.A لسنة 1967، ص 528.
و الحقوق المكتسبة في إطار العقود الإدارية، يحكمها مبدأن الأول يتعلق بالتغييرية La mutabilité وهو المتمثل في حق التعديل الانفرادي للعقد ، والثاني يقضي بعدم المساس intangibilité وذلك يتحقق تحت مظلة قاعدة العقد شريعة المتعاقدين ، وعلى كل حال فإن التغييرية المذكورة ليس من شأنها إهدار الحقوق المكتسبة للمتعاقد ؛ لأنه إذا كان يحق للإدارة أن تعدل انفرادياً في عقودها، إلا أن ذلك مشروط بتغير ظروف المرفق الذي يرتبط به العقد وإلا كان التعديل غير مشروع، لذلك يمكن القول إن عدم المساس بالحق المكتسب في العقود الإدارية ناجم عن طبيعة التصرف القانوني ذاته (العقد) فهو وإن خضع إلى التعديل الانفرادي إلا أن ضوابط هذه النظرية وشروط تطبيقها تجعل العقد ميالاً دائماً إلى الأصل الذي هو شريعة المتعاقدين .
وعلى الرغم من رسوخ قاعدة الحقوق المكتسبة في إطار العقود الإدارية إلا أن هناك استثناءات عليها، إذ يمكن أن تتأثر الحقوق العقدية المكتسبة عند تطبيق قانون جديد على عقد إداري أبرم في ظل قانون سابق، إذا تعلق القانون الجديد بالنظام العام، لذلك ولأجل الحفاظ على الحقوق المكتسبة في هذه الحالة ظهرت التقنيات المتعلقة بشرط الثبات التشريعي ، والتي تهدف إلى المحافظة على حق عقدي مكتسب في ظل قانون سابق، وكذلك تتأثر الحقوق المكتسبة الناجمة عن العقود الإدارية عن طريق ممارسة سلطات الضبط الإداري في مواجهة المتعاقد أثناء تنفيذه العقد.
المنشور مفهوم المركز القانونى المكتسب و آثاره ظهر لأول مرة نقابة المحامين المصرية.